الأخبارعاجلمقالات

د.دينا دياب تكتب:قاسم الأعرجي… رجل الدولة حين تتكلم الحكمة

في زمنٍ يضجّ بالتناقضات وتغلب فيه الانفعالات على التعقّل، يبرز اسم قاسم الأعرجي بوصفه أحد أولئك القلائل الذين جعلوا من الهدوء قوة، ومن الوسطية منهجًا، ومن الحوار طريقًا إلى النجاة.

هو رجلٌ تعلم من التجربة أن الحكمة ليست ضعفًا، وأن الحسم لا يعني الصدام، وأن الدولة تُبنى بالعقل قبل البندقية.

إنه ببساطة رجل الدولة حين تتكلم الحكمة.

من الميدان إلى الدولة

وُلد الأعرجي عام 1964 في مدينة الكوت بمحافظة واسط، ونشأ على قيمٍ راسخة في الوطنية والالتزام.

عاش الحرب والأسر والمنفى، فاختبر قسوة الحياة مبكرًا، وتكوّنت لديه شخصية تجمع بين صلابة المقاتل وهدوء المفكر.

بعد 2003 عاد إلى وطنه، وبدأ رحلة العمل العام من مواقع أمنية وسياسية متعددة، وصولًا إلى توليه وزارة الداخلية عام 2017، ثم منصب مستشار الأمن القومي الذي يشغله منذ عام 2020.

في كل محطةٍ من مسيرته، قدّم الأعرجي نموذجًا خاصًا في القيادة؛وزيرًا يؤمن أن الانضباط لا ينفصل عن الإنسانية،ومسؤولًا يرى أن الأمن لا يتحقق بالخوف، بل بالثقة بين الدولة والمجتمع.

رؤية للأمن القومي الحديث

يؤمن قاسم الأعرجي بأن الأمن في العراق لم يعد مجرد واجبٍ عسكري، بل مشروع وطني شامل يربط بين الأمن الفكري، والمجتمعي، والسيبراني، والاقتصادي.

وفي رؤيته، لا يمكن تحقيق الأمن الدائم إلا عبر تعزيز وعي المواطن وبناء مؤسسات رصينة تحمي الإنسان قبل الأرض.

من هذا المنطلق عمل على تطوير بنية مجلس الأمن الوطني لتكون أكثر تنسيقًا وفاعلية، وطرح مفهوم “الأمن الوقائي” الذي يستبق الأزمات قبل وقوعها.

إنها رؤية هادئة لكنها عميقة، تُحوّل مفهوم الأمن من حالة طوارئ إلى ثقافة دولة.

وسيط الحكمة في لحظات الاختناق

عرف العراقيون قاسم الأعرجي في الأوقات الصعبة:في صراع القوى السياسية داخل بغداد، وفي التوتر مع إقليم كردستان، وفي الأزمات الإقليمية التي كادت تجرّ العراق إلى حروبٍ لا مصلحة له فيها.

كان دائمًا رجل الإطفاء الوطني، يتقدّم حين يتراجع الآخرون، ويُطفئ النيران بصمته أكثر مما يفعلها غيره بخطبهم.

في أزمات 2022 السياسية، وعندما اشتعلت الخلافات بين التيارات الكبرى، لعب الأعرجي دور الوسيط الهادئ، فجمع المختلفين على أرضية الوطن لا المصالح.

وفي أزمة الحرب على غزة 2023، ثبت موقفه الرافض لانزلاق العراق في صراع المحاور، مؤكدًا أن الحياد الإيجابي هو قمة الشجاعة السياسية.

لقد كان دائمًا يُدرك أن وظيفة رجل الدولة ليست رفع الشعارات، بل حماية البلاد من نار الشعارات.

التحول في الخطاب العراقي

لم يكن الأعرجي مجرّد صانع سياسات، بل صاحب خطابٍ جديد للدولة العراقية.

فقد نقل لغة العراق الرسمية من الانفعال إلى التوازن والاتزان، ومن رد الفعل إلى المبادرة.

وفي لقاءاته الدولية، سواء في المنتديات الأمنية أو القمم الدبلوماسية، تحدّث بلغة العراق الواحد، لا بلغة المحاور.

قدّم صورةً لبلده كقوةٍ ناعمةٍ فاعلةٍ في المنطقة، تؤمن بالدبلوماسية لا بالصدام، وبالانفتاح لا بالعزلة.

ومن خلاله استعاد العراق شيئًا من هيبته في المحافل الدولية؛ دولةً تُصغي إليها القوى، لا تُؤمَر.

الهدوء الذي يُعيد تعريف القوة

يمتلك الأعرجي أسلوبًا قياديًا فريدًا، أساسه الهدوء والتوازن.

هو الرجل الذي يتكلم قليلاً، لكنه يُحدث الأثر الكبير حين يتكلم.

في الاجتماعات المصيرية، يُصغي أكثر مما يتحدث، ثم يُلخّص برؤيةٍ دقيقة تقطع الجدل.

يُعرف عنه أنه لا يرفع صوته حتى في أقسى الأزمات، لأن صوته الحقيقي هو ثقة الجميع بقراره.

إنه نموذج القائد الذي يثبت أن العقل أصدق من الضجيج، والحكمة أقوى من السلاح.

رجل التوازن والعلاقات المفتوحة

في مشهدٍ إقليمي معقد، عرف الأعرجي كيف يجعل من العراق جسرًا بين الشرق والغرب لا ساحةً لصراعهم.

فقد أدار بحكمةٍ الحوار السعودي–الإيراني الذي استضافته بغداد، وكان أحد الداعمين لفكرة العراق “الوسيط الموثوق”.

وفي علاقاته الدولية، حافظ على معادلة دقيقة بين واشنطن وطهران والعواصم العربية، دون أن يُفرّط باستقلالية القرار العراقي.

إنه يؤمن أن التوازن ليس خيارًا تكتيكيًا، بل عقيدة وطنية تضمن بقاء الدولة.

رجل يحظى بمحبة الجميع

ما يميز الأعرجي عن سواه هو أنه محبوبٌ حتى من خصومه.

لم يُعرف عنه تصريحٌ متشنّج أو موقفٌ إقصائي، بل يتعامل مع الجميع بمنطق المسؤول لا المناكف.

الإعلام يصفه بأنه “رجل الدولة الهادئ”، والمجتمع يراه قريبًا من الناس بتواضعه واهتمامه الإنساني.

وفي المؤسسات الأمنية، يُنظر إليه كقائدٍ منصفٍ يُكرّم الضباط والجنود ويشاركهم الميدان لا من وراء المكاتب.

إنه وجه الثقة في زمن الاضطراب، وملاذ الطمأنينة حين تختلط الأصوات.

من رجل السياسة إلى رجل الدولة

تحرر الأعرجي من عباءة الانتماء الحزبي ليرتدي عباءة الدولة بكل مسؤوليتها وهيبتها.

في وزارة الداخلية أجرى إصلاحات جريئة وأقصى مَن أساء إلى هيبة المؤسسة الأمنية، غير آبهٍ بردود الفعل.

وفي مجلس الأمن القومي، جمع تحت سقفٍ واحدٍ ممثلين من كل المكونات، ليؤكد أن الأمن لا طائفة له، وأن العراق بيتٌ واحد للجميع.

هذا التحول من “السياسي الملتزم” إلى “الوطني المتجرّد” هو ما جعله اليوم رمزًا لمرحلةٍ ناضجة في إدارة الدولة العراقية.

رجل يبحث عن الوطن في كل أزمة

حين تمرّ بالعراق أزمة جديدة، يكون قاسم الأعرجي أول من يمدّ يده لا ليُشير إلى الخطأ، بل ليُصلحه.هو رجل لا يُحبّ الأضواء، بل يصنعها للآخرين.

لا يتحدث كثيرًا، لكنه حين يتكلم يُصغي الجميع لأن منطقه يعلو على الخلاف،في كل أزمةٍ يختار موقعه إلى جانب الوطن، لا على مقاعد المتفرجين.هو باختصار ضميرٌ هادئ في زمنٍ صاخب، ورجلٌ يُمارس الوطنية بصمتٍ لا بشعارات.

خاتمة: القائد الذي يُعيد تعريف الدولة

قاسم الأعرجي ليس مجرد مسؤولٍ تولّى مناصب عليا، بل تجربة دولةٍ تمشي على الأرض.

تجربةٌ تُذكّر بأن القيادة ليست منصبًا، بل مسؤولية، وأن الكلمة الصادقة قد تُنقذ وطنًا بأكمله.في عراقٍ يبحث عن توازنه، يمثل الأعرجي نموذج القائد العاقل الذي يعرف كيف يربح السلام دون أن يخسر الكرامة، وكيف يحمي الدولة دون أن يُخيف أبناءها.ولذلك، سيبقى اسمه حاضرًا كلّما كُتب عن العراق الحديث:

رجل الدولة حين تتكلم الحكمة.

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى