د.قيس الرضوانى يكتب:العارف النوراني الزاهد محمد الرضواني… سِرّ الله السائر في دروب الموصل
2025/04/15 1:40:59 مساءً
في الزوايا العتيقة من مدينة الموصل، حيث تعانق المآذن السحب، وتهمس الأحجار بحكايا العارفين، ولد في القرن التاسع عشر رجلٌ ما سار إلا وكان للتراب خُشوعٌ تحت قدميه. هو محمد أفندي الرضواني، العالم الزاهد، والعابد الساكن، والنور الذي تجلّى في زمنٍ خفتت فيه مصابيح الهدى.
لم يكن الرضواني مجرد فقيه يدرّس، ولا خطيباً يخطب، ولا شيخاً يعتمر العمامة البيضاء ويجلس في صدر المسجد. كان مقاماً من مقامات السالكين، وطريقًا من طرق أهل الله، يسكب على طلابه علماً لا تقيّده الكتب، ويرشّ على روّاده من عطر اليقين ما يُوقظ في القلوب توقًا للحق، وشوقًا للسكينة.
في فجر كل يوم، كان يغدو إلى مسجد الرضوان، لا يطرقه باب ولا يصاحبه خادم. وحده، يحمل سره إلى ربه، ويغرس في تراب الفجر دروس الخشية، ويبعث في نفوس طلابه إشراقات من العلم ممزوجة بالتقوى. كان يقول: العلمُ لا يُنبت ثمرًا إلا إذا سُقي بماء الإخلاص.
لم يعرف الشيخ أروقة المناصب ولا مدائح السلاطين. عاش طائعاً متواضعاً، يكسو فقره بالصبر، ويرتدي زهده تاجًا من نور. أعرض عن الدنيا، لكنها ما أعرضت عنه، فقد تبعته القلوب قبل الأقدام، واحتشد حوله الفقراء قبل الأغنياء، والباحثون عن اليقين قبل المتكلفين في المنطق والجدل.
كان إذا خطب، خشعت الأرواح قبل الآذان. وإذا نظر، أحنى الجسد رأسه حياءً من سكينة وجهه. وإذا سكت، كان سكوته درسًا في أدب الصمت أمام الحق. لقد جمع العلم والورع، الحكمة والسكون، حتى قيل فيه: كان يمشي والنور أمامه، والتواضع رداءه، والرحمة ظلاله.
في المجاعة الكبرى، خرج الرضواني يطرق أبواب الأرامل، يحفظ ماء وجوههم بيده الكريمة، يطعمهم سراً، كأن يده الأخرى لا تعلم بما أعطت الأولى. وفي ليالي الشتاء الطويلة، كان صوته يتردد في الأزقة: الصلاة خير من النوم… والعلم خير من الجاه… والقرب من الله عزٌّ لا يزول.
ما ألّف كتاباً، لكن القلوب كانت كتابه. وما نقش حرفًا على الورق، لكنه نقش في الوجدان سيرته، وكتب في صدور تلامذته فصلاً من فصول الطهر.
رحل محمد أفندي الرضواني عام 1938، لكن العارفين لا يرحلون، بل يتحولون إلى دعاء يُتلى، وسيرة تُقتدى، وذكرى تستظل بها الأرواح في مواسم التيه.
وفي كل فجر، حين تهمس الموصل القديمة بأذكارها، تمرّ النسائم من عند ضريحه وتقول:
“هنا رجلٌ سار إلى ربه… فمشت الموصل خلفه حبًا وسكينة.”